الجمعة، 20 سبتمبر 2019

هل لابد ان أكون مسيحياً إذا خرجت من الإسلام ؟!


يشكك كثير من المرتدين عن الإسلام في جدارة المسيحية كبديل أفضل لا تتوفر فيه نقس العيوب ... فالكثير منهم يفضل الإلحاد ويقول إنه لا يريد أن يؤمن برجل يدعي إنه مرسل من الله فكيف يؤمن بمن يدعي إنه ابن الله ... والحقيقة إن كثيراً ممن ينتقلون إلى المسيحية لا ينتقلون عبر التشكيك ولكن عبر الإيمان فهم يتأملون في الآيات القرآنية التي تدعي إن المسيح يخلق الطيور ويحيي الأموات والآيات التي تنسب الخلق والإحياء والإماتة إلى الله " أفمن يخلق كمن لا يخلق".."لا إله إلا هو يحيي ويميت".. فيستنتجون إن القرآن نفسه يشهد بألوهية المسيح كما يستنتجون إنه لا مقارنة بينه وبين محمد ..فمحمد لا يأتي بشيءٍ من المعجزات..  ناهيك عن إنه توفي كأي بشر بينما المسيح لازال حياً حسب العقيدة الإسلامية ... وكل هذه الأمور تجعل كل من لا يعجبه السلوك الأخلاقي العنيف لمحمد يفضّل الإيمان بالمسيحية .. أمّا من أثّرت فيه العلمانية فهو قد يرى الدين برمته خرافة وبما إنّه رفض وجود الأنبياء الذين يتصلون بالله فمن الطبيعي أن لا يرضى بعقيدة تقول إن بشراً من لحمٍ ودم هو ابن الله كما أسلفنا.. فعند ردنا على من يرفضون هذه الفكرة لا يجب أن ننسى إننا أمام مزاج الحادي مادي.
وعند التعمق في لب الموضوع لابد من التنبيه إلى نقطة مهمة ... ألا وهي لغز الروح الذي يظل مغلقاً على أفهام أكبر العلماء مهما بلغ علمهم... وهو من أكبر أسرار الكون... ومازال محلّ جدل بين الملحدين والمؤمنين.... فالملحد المادي لا يرى للروح وجود ويُرجع جميع العواطف والأفكار والأحاسيس إلى جهاز عصبي مادي ولا يمكنه الحكم بأن ثمة شيء ورائه .
قد يكون هذا أقصى ما يمكن للعلم تأكيده.. ولكن هل هذا كفيل بإرضاء الروح الباحثة عن الحقيقة ؟!  وهل هذا كفيل بتفسير كل شيء ؟!... هل يمكننا مثلاً تفسير الرؤى والأحلام التي تتحقق كما هي ... أو الأدعية والأمنيات التي تتحقق كما هي كذلك ... وكثير من ظواهر ماوراء الطبيعة ؟!...
قد نستطيع استيعاب وفهم كل المكونات المادية لأجسامنا ولكن تظل أرواحنا لغزاً حتى ونحن نتكلم باسمها ونتيقن من وجودها ... ونعلم تمام العلم من خلال بعض الظواهر إنها تستطيع تجاوز العالم المادي زمانياً ومكانياً مما يشعرنا بأنها تنتمي لعالم آخر لا نفهمه تمام الفهم .
كل هذا يجعل أمر الروح مجهولاً ومهما حكمنا بأن كل البشر مخلوقين من نفس اللحم والدم ومحكومين بنفس الجينات البشرية فإنه لا أحد يستطيع الحكم بأن الأرواح كذلك.... فقد تكون لبعض الأرواح قدرات لا تكون لغيرها .. ويظل في الروح قبس إلهي غير مستبعد عقلياً وقد يقوى هذا القبس في البعض بحيث يكون انعكاساً كاملاً للذات الإلهية .. وهذا شيء غير مستبعد.. ولابد عند التسليم بأي قوة طبيعية أن يكون ثمة طفرة تمثل الحد الأقصى لهذه القدرة... وتتجلى فيها أقصى الإمكانيات لفعل المعجزات الخارقة التي قد لا يتصورها العقل البشري  في أي حالة أخرى ... وإذا افترضنا إن علاقة أي روح إنسانية بالله كأي شعاع صغير ينقله ثقب في الجدار فإن روح المسيح يمكن تشبيهها بذلك النور الكامل الذي نلتقطه عند خروجنا من بين الجدران لرؤية الصورة الكاملة للشمس كما هي !.. فهل هناك فرق بين تلك الصورة والشمس نفسها ؟!.. هل هناك أي مبرر بالقول إننا لم نر الشمس بل رأينا صورتها ؟!
كل هذا مجرد سيناريو متصوّر -بالمناسبة- لتقريب الحقيقة ...وقد يفترض المؤمنون تصورات مختلفة لحقيقة البنوة لله تعكس رؤية الكنيسة التي يتبعها ... ولكنني شخصياً أرى هذا هو أقرب التصورات إلى فهمي البسيط وأعتقد إن الإعتقاد به يسهّل فهم المسلم لحقيقة المشكلة  ولبّ العقيدة ... فالمسيحية ديانة روحية بالدرجة الأولى ...وكل من يؤمن بسموّ جوهر الروح وسموّ أصلها الغيبي  يستطيع استيعاب الموضوع بهذا الشكل ... ولذلك يمكننا الإعتقاد إن من تجليات هذه البنوة أن نرى كل البشر كأبناء لله... فألوهية المسيح ليست مفهوماً جامداً ومغلقاً على نفسه... بل هو تقديس للجنس البشري ككل ... فوجود ابن لله من بين البشر تشريف من الله للإنسانية ككل وليس عبوديةً من الإنسان للإنسان كما قد يتصور بعض المسلمين.
ومن هنا نفهم إنه ليس في ألوهية المسيح ما يمثل احتقاراً للعقل البشري ... بل يتطلب الأمر قليلاً من التعمق في أعقد المشاكل الفلسفية التي حيرت البشرية... ومنها نجد الطريق إلى تقبل المسيحية... كما إن سلسلة الأنبياء التي لم تنقطع لابد أن تؤدي إلى نقطة ما تترجم الغاية منها... أي الغاية من الإتصال بالله عبر هؤلاء الأنبياء .... وهذه الغاية النهائية ذكرها الإنجيل بكل وضوح... حين ذكر مثل "صاحب الكرم" الذي غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبني فيه برجاً وسلّمه إلى كرّامين وسافر ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده .... فأخذ الكرّامون عبيده وجلدوا بعضاً ورجموا بعضاً ثم أرسل آخرين ففعلوا بهم كذلك... ثم أرسل ابنه... وهنا يجب ان نتوقف في معنى هذا التسلسل وجوهر المثل بدلاً من التركيز على عبارة " وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا " وتحميلها ما لا تحتمل من المعاني... فهو لم يقل بأن صاحب الكرم سيرسل آخرين بعد إرساله لابنه... والمعنى واضح بأن أمة اليهود رفضت المسيح وستأتي أمم أخرى تقوم بما لم يقوموا به.... وهذا يوضحه قول المسيح بعدها مباشرةً :" أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية.... من قِبَلِ الرب كان هذا وهو عجيبٌ في أعيننا.. لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمةٍ تعمل أثماره"... فالمعنى واضح جداً لا يحتاج إلى تحريف كما إن تفاصيل النبوءة تحققت تماماً وإن كان الملحد يشكك أصلاً في وثوقية النص وقد يدّعي إن بعض التفاصيل أضيفت لاحقاً .... ولكن لا أعتقد إن في المنطق السليم ما يبرر رفض جوهر المثل الذي يجعل إرسال الإبن هو النقطة الأخيرة التي تختم سلسلة الأنبياء... وخصوصاً مع عدم وجود مبرر لأن يختلق كتبة الأناجيل هذه الحقيقة.

الأحد، 15 سبتمبر 2019

حقيقة التوحيد المحمدي


القرآن يؤكد بكل وضوح على مركزية التوحيد في العقيدة وإن تعدد الآلهة لو صحّ لأدى الى فساد الكون ودماره:
 "لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " (سورة الأنبياء ٢٢).
" ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون " (سورة المؤمنون ٩١).
ويطبق المسلمون هذا المبدأ على الخلافة أيضاً فيقول الحديث : "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه"(صحيح مسلم) .
فمحمد يفترض إن الآلهة كالبشر في غرائزها وأنانيتها، وفي تغليب الحماسة على العقل، رغم ان بناءه على ذلك كحقيقة مسلّمة فيه من السذاجة ما فيه، فهو يصوّر الآلهة بالشكل المؤطّر والمعهود ولم يستطع التحرر فكرياً بشكل يتناسب مع دعواه الخاتمة للأديان.. فهو يتحدث هنا عن آلهة تعكس الضعف والنزق الإنساني البسيط..
لم يستطع محمد تجاوز هذا الإختبار .. بل إنه تناقض مع نفسه أيضاً.. فحتى حسب مفهوم القرآن نفسه ليس في تعريف الإله ما يؤكّد مشاركته للبشر في غرائزهم وضعفهم، وكما إن المسلمين اليوم يرون إنه من المغالطة أن تُعمّم أخلاق المسلمين وتنسب للإسلام فمن باب أولى ليس من المنطق أن تُعَمّم صورة الآلهة كما هي في الحضارات الأغريقية والهندوسية بنزقها وصراعاتها على مبدأ تعدد الآلهة ، فليس من الضروري أن تكون الآلهة بهذا الشكل!.
وبالتالي قد نخلص إلى نتيجة تقول  إن مبدأ وجود إله واحد لا يختلف في قوته عن مبدأ تعدد الآلهة، فكل ما يمكننا تأكيده بعد نظرة تأملية في نشوء هذا الكون إنه لا بد أن يوجد إله واحد على  الأقل، والقليل الذي عرفناه عن الكون في عصرنا هذا يؤكد عظمة هذا الإله أو هذه الآلهة ، أو فلنقل عظمة هذه الذات الواحدة أو المتعددة التي قررت خلق هذا الكون، ولا يمكن أن نتصورها مع كل هذه العظمة أن تصل بتفاهتها إلى التقاتل والتصارع أو تقاسم الكون بطريقة " أن يذهب كل إله بما خلق"، فأقل درجاتها لابد أن يكون الكمال العقلي الذي لا يؤدي إلى التنازع بل إلى التنسيق المتبادل إذا صحت العبارة في حق هذه الآلهة ، ويمكننا بالمناسبة أن نفترض وحدتها من قبيل وحدة الإرادة حتى مع وجود التعدد.
 ونظراً للصراع المزروع في غرائزنا على هذه الأرض، وهو بالمناسبة "صراع من أجل البقاء" كما دأبنا على تسميته ، فإن البشر في عصور سابقة عكسوا ذلك على تصورهم للآلهة، والقرآن لم يكن استثناءياً ولم يأتِ بجديد على بيئته ، فهو وضع ذلك كقاعدة وبديهة تبدو ساذجة جداً اليوم للتدليل على وحدانية الإله، وهنا يكمن الخطأ !.
وحتى لو كان مبدأ الوحدانية هو الصحيح فلا يمكن لمن خلق الكون بعظمته أن يعجز عن الإتيان بحجة أقوى للدلالة على هذا المبدأ ! وحتى مع هوس محمد بفكرة الوحدانية بشكل دوغمائي متحجّر ، نجده لا ينتبه لإخلال تقديس الأحجارالذي ورثه عن قومه بمبدأ الوحدانية .... صحيح إنّه يركز كثيراً على توحيد الخالق المستحق وحده للعبادة، كما يركّز على وحدة الدين ووحدة الأمة ووحدة الخلافة.. فلا دين للبشرية إلا دين الإسلام، والأمة واحدة ولابد أن تكون تحت إمرة خليفة واحد، ومع كل هذا الهوس بالوحدة والتوحيد بهذا الفهم السطحي لم يستطع محمد تحرير قومه من عبادة الأحجار بل اكتفى باستبدال الأصنام المتعددة بصنم واحد هو الكعبة.
ولذلك فهو توحيد دوغمائي أجوف المضمون، مع كره مقيت للتعددية يسوّغ تطهير الجزيرة من الأديان المخالفة، وبالتالي تحريم الجدال والإبتداع حتى لا تتنوع الآراء ، ولو استقرأنا التراث الإسلامي كله لوجدنا إنه خلق أيدلوجية معادية لمفاهيم الحرية والإبداع والتعددية التي تعتبر أساس التطور ، ولم يستطع محمد ولا المسلمون من بعده أن يستوعبوا طريقة الحكم المثالية في عصرنا اليوم التي أصبحت مبنية على التعددية  سواء تعدد الأحزاب أو تعدد السلطات (السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية) والتجارب أثبتت إن التعددية هي أساس نجاح الدول، مما يثبت بدوره تهافت المبدأ الذي بنى عليه محمد محاججته ضد تعدد الآلهة، فهو لم يستطع تخيل السلام والإتفاق مع تعدد السلطات بين البشر ولو عاش في عصرنا هذا لرأى الأمم المتحضرة تحكم بمبدأ التعددية وتعيش سلاماً وحسن تدبير لم يحظٙ به المسلمون والعرب الذين توارثوا نبذ التعددية والتنوع من محمد وأتباعه، وحين يحاول أكبر مجدد إسلامي في العصر الحديث "محمد عبده" إختيار النظام الأفضل للمسلمين لا يجد إلا نظرية "المستبد العادل"، مع إنه كان ولا يزال الأكثر تحرراً في عقيدته وفقهه، وهذا ليس غريباً لأنه يعكس العقل الجمعي والمحور التوحيدي الإستبدادي الذي يفترض ضعف الرعية وقلة وعيها ونزقها وشقاوتها مقابل رشد الحاكم الذي يفترض به أن يقودهم بالعصا والسوط .
ويبدو من تحليلنا للسيرة إن محمد كان مسكوناً بطموح توحيد العرب تحت حكمه، وكان يرى تنازعهم وشراستهم وعدم انسياقهم وانضباطهم لأي قانون عدا قانون القوة، لذلك كان يأتي بتلك النظريات التي يثبت بها وحدة الله، التي لا يشكك عاقل في تفاهتها من هذا المنظور بل يراها إسقاط واضح للبيئة وللطموح السياسي، فطموح محمد في توحيد الله تغلّفه الطموحات السياسية بشكل واضح حتى إن المرء يحتار أثناء دراسته لتفاصيل السيرة المحمدية ويتساءل بصدق كيف لمحمد أن يمزج بكل صفاقة وجهل بين "الله" و"الطموح السياسي" ؟ وكيف لغزوات النهب والسلب والإسترقاق أن تكون جهاداً في سبيل الله ؟! ، ولماذا لم يكتفِ هذا النبي بإيصال رسالته ونشرها إلى القبائل الأخرى بدلاً من إصراره على إحكام السيطرة على كل الجزيرة العربية قبل موته ؟! . كل هذه التساؤلات تؤكد إن هاجسه الوحيد كان سياسياً بالدرجة الأولى وحتى وهو يدعو للتوحيد بين العرب كان يضمر توحيدهم تحت رايته أكثر من اهتمامه بتوحيد الله.

السبت، 14 سبتمبر 2019

الأخلاق الإسلامية بين الإستعلاء والإسقاط والنفعية

كان من الشائع خلال الحقبة الإشتراكية أن يتم تصوير المجتمع الغربي بشكل مجتمع أناني عديم الإنسانية ... يموت فيه الفقراء والمعدومون من الجوع أو من البرد من دون ان يلتفت إليهم المجتمع.... فلا تآلف ولا تضامن ولا شفقة .... ليس مع الغريب فقط بل حتى بين الأخ وأخيه والإبن وأبيه..... 
كان هذا النوع من الدعاية مبثوثاً في القنوات الرسمية والأنظمة التعليمية بشكل كافٍ ليقنع الناس بأنهم يعيشون في الجنة الموعودة مقارنةً بالمجتمعات الغربية.... ولكن ما إن انفتحت مجتمعاتنا المغلقة على هذا العالم الغربي حتى اتضح العكس تماماً.... بل إن الواقع اليوم يعطي هذه الصورة ذاتها بشكل معكوس تماماً... فالواقع اليوم أثبت إن الإنسان النفعي المادي عديم الرحمة هو الإنسان العربي المسلم وليس ذلك الغربي الملحد أو المسيحي.... ومن أوضح الأمثلة على هذه الحقيقة ما شاهده العالم أجمع من مآسٍ يومية يواجهها اللاجئون السوريون حين يموتون برداً وجوعاً على الحدود العربية بينما يُعاملون بمنتهى الرحمة والإنسانية في الدول الغربية .... كما لاحظ العالم كله عبر الأخبار اليومية نوعاً غريباً من اللامبالاة بالنازحين والمهجرين ويمكن أن نقول بلا مبالغة الإحتقار والقسوة في الدول العربية .... فأين ذهبت الأخوة العربية والأخلاق الإسلامية ؟!.... وما الذي يدعو الملحد والمسيحي إلى معاملة هؤلاء بكل هذه الإنسانية وهذا الكرم مع كل التكاليف والمصاريف التي لن تعود عليه بالنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة ؟!....
في كثير من الأحيان ينتقد الملحدون أخلاق المتدينين ويقولون إنها نفعية وصولية لغرض حيازة الحور العين وأنهار الخمر وإنها ليست من صميم قلوبهم ولا بداعي الضمير والإنسانية..... ومواقف مثل هذه تثبت صدق كلامهم.... فهؤلاء المسلمون يفضلون وضع حزام ناسف والدخول في عملية انتحارية أو جهادية لأنهم يتيقنون دخولهم للجنة بعدها..... فهم يفضلون الوصول إلى الجنة عبر القيام بالأعمال السلبية وإن كانوا يعلمون إن للأعمال الإيجابية أيضاً جزاءها ولكنهم يفضلون الطريق الأسرع والذي لا يكلفهم شيئاً.... وإذا لم يقتنع المسلم بوجود جزاء أخروي على شيء من أعماله فلن يقوم به مهما أقنعته.... فالمسلم لا يؤمن بالقيم الإنسانية في حد ذاتها ويحتقر حقوق الإنسان ويعتقد إنها أوهام رومانسية لا تسمن ولا تغني من جوع.... أما الدين فبراجماتي نفعي بثمن مؤجّل بطريقة التجار .... لذلك يقول عن الجنة إنها "سلعة الله" وفي أحاديث محمد نجده يقول :"ألا إن سلعة الله غالية... ألا إن سلعة الله الجنة ".... والتعابير التجارية من هذا النوع أكثر من أن تحصى في القرآن والسنة...
رغم إن المسلمين لا ينتبهون لسفالة هذا النوع من التعامل مع الله فإن الملحد (وحتى المتدين بدين آخر) ؛الذي هو من خارج المنظومة القيمية الإسلامية؛ لا يستطيع استيعاب إن هذا النوع من التدين أمر إيجابي ... لا يمكن في نظره أن يثمر هذا النوع من التعامل مجتمعاً صالحاً أخلاقياً... فبمجرد ان يعتقد بعض أفراد هذا المجتمع إنهم لن يكونوا بمنجاة من نار جهنم فإنهم سينغمسون في الرذائل بدون وازع ولا ضمير .... وخصوصاً حين نعلم إن كل المسلمين تقريباً يؤمنون بوجود فترة ضرورية من العذاب للجميع وإن العذاب عسير على كل من ارتكب ولو مثقال ذرة من الأخطاء والآثام ... والقرآن يقول "وإن منكم إلا واردها -يقصد جهنم- ... كان على ربك حتماً مقضيا" ..... كما يؤمنون بأنه لا أحد معصوم عدا الأنبياء.... ثم مع ذلك يؤمنون بأن شهادة الإسلام "لا اله الا الله.محمد رسول الله" تزن الكثير في ميزان الإسلام وكفيلة بالشفاعة لمن يؤمن بها "صادقاً من قلبه"... لذا تجد إنهم يمنون أنفسهم بأنهم الأمة الناجية يوم القيامة التي تصطلي بقليل من العذاب ليطهرها الله من الخطايا ثم يدخلها الجنة.... بينما تُخلّد بقية الأمم في جهنم إلى الأبد.... ويؤمن كثير من المسلمين إن هذه الأمم الكافرة مباحة الدم والمال حتى تدفع الجزية... وهذا ما يسهّل على بعض أفراد الجاليات المسلمة في الغرب امتهان السرقة والنهب من جيرانهم المسيحيين والملحدين ....
مع أخذ كل هذه التفاصيل في الإعتبار يمكننا تخيّل هذا المسلم كطفل مشاغب يربيه أبوه بالسوط كلما أخطأ بحيث لا يعرف الشر إلا بتخيله للسعة السوط التي سوف تلهب ظهره لو ارتكب ما لا يرضي والديه .... ولو سألنا مسلماً عن هذا النوع من التربية لربما وافقنا وذكّرنا بحديث محمد:" علقوا السوط حيث يراه أهل البيت فإنه لهم أدب " مما يثبت إن الإسلام هو دين العنف شكلاً ومضموناً.... وإنه دين نفعي براجماتي لا يعترف بالضمير ولا يهتم بطهارة القلب ولا بالقيم الإنسانية .... ونحن نعرف اليوم رأي علماء الإجتماع الذي يؤكّد إن وازع الخوف لا يخلق إلا شخصية مهزوزة، وإذا حالفها الحظ وتماسكت فستصبح عنيفة ومجرمة بحيث تفرّغ الكبت الذي عانته بإسقاط هذا العنف على الآخرين.... فتنتشر عدوى العنف والسادية من الأب إلى الإبن حتى تصبح القوة والغلبة هي المسيطرة في العقل الجمعي بشكل متجذر يصعب اقتلاعه... مما يسهّل تقبّل تلك الشخصية الدكتاتورية التي تحمل درّة عمر بن الخطاب وتجبر الناس على الإنقياد إلى الحق.... ويجعل من الصعب في نفس الوقت إحداث التغيير الإيجابي النابع من القناعة الشخصية .... فكل المسلمين تقريباً يؤمنون إنهم لا يستطيعون إصلاح أنفسهم بأنفسهم ولا التقدم نحو الأفضل إلا بقيادة ذلك "المستبد العادل" (حسب لفظ الشيخ محمد عبده) ... ولا زالت المجتمعات الإسلامية تدور في نفس الدوامة وتتجدد لديها الرغبة لظهور هذا المستبد العادل الذي يجسّد صورة الإله الإسلامي الذي يقود شعبه عبر الإكراه والتخويف والتهديد .... وغالباً ما يكون هؤلاء المستبدون هم من ينشرون بين شعوبهم تلك الدعاية "المعكوسة" عن الفساد الأخلاقي للعالم .... ويمارسون نشر الوهم بين المسلمين بحيث ينظرون للإجرام والعنف والنهب على إنه جهاد وغنائم وأنفال .... والإغتصاب نكاح شرعي لملك اليمين.... وبدلاً من حماية المدنيين يتم سرقة ممتلكاتهم واعتبارها غنائم وأسرهم وبيعهم في سوق الرقيق.... وقد يصعب جداً إقناع المسلم بأن هذه الأفعال منافية للأخلاق الإنسانية بشكل بديهي....  
وهذا كله يقودنا إلى السؤال عن الأخلاق وعلاقتها بالدين .... وهل الدين هو دائماً منبع الأخلاق الخيّرة والإنسانية.... وهل هذه الأخلاق الإنسانية تحتاج بالضرورة إلى دين ووحي سماوي أم إنها فطرية .... وهل سيلتزم الإنسان بها إذا لم يكن هناك ثواب ولا عقاب ؟!... وهل يمكن الإعتماد بنوع من المصداقية والثقة بالإنسان كإنسان وبأن الأخلاق نابعة في الأساس من إنسانيته وشعوره المرهف بالألم الذي قد يعانيه الآخرون من جراء أي فعل شرير يقوم به تجاههم ؟!... وهل يحتاج هذا الشعور إلى نبي يعلمنا إياه أم إنه كامنٌ في فطرتنا ؟!... 
المجتمعات المتحضرة تتعامل بشكل عقلاني مع الأخلاق بحيث تكون الجريمة في كثير من الأحيان مرادفة للمرض النفسي..... والمجرم فيها يُعامل كمريض يحتاج إلى العلاج أكثر من الإنتقام والقصاص ..... والأفعال الشريرة تُفقد المواطن أي نوع من المصداقية والثقة في الوسط الذي يعيش فيه.... كما تفقده الإحترام وقد تفقده وظيفته ... لأن المجتمع ككل مبني على القيم الإنسانية واحتقار الظلم والأفعال الشريرة بشكل عام.... ومجرد كون المجتمع الذي وصل هذا الرقي أخلاقي ليبرالياً -حراً ؛لا إكراه فيه- يثبت إن النفس البشرية طيبة وخيّرة بفطرتها وتنزع إلى الإبتعاد عن الشر من دون ضغط أو إكراه أو تهديد .... وإن الأفعال الخيرية التي تنبع من  إنسانية الإنسان أكثر فائدةً من تلك التي يمارسها المتدينون لإرضاء الله.... وكل هذا متجذر بشكل طبيعي في المجتمعات الناضجة اجتماعياً... والتي يتطور فيه النقد والتصحيح بطريقة عقلانية تستهدف الوصول إلى أقصى حد من السعادة والرفاهية للجميع عبر المساواة والحرية والديمقراطية التي تخلق علاقات احترام متبادل بين أفراده.... فالمواطن الذي يتعاون مع زميله في العمل ويعمل بجدّ قد لا يضع في اعتباره حب الله ولا حبّ الوطن... ولكنه يعلم تمام العلم إن واجبه أن يكون إيجابياً ... ويضع في اعتباره أن واجبه أن يفعل ما يتمنى للآخرين أن يفعلوا معه .... وإن العالم سيكون أفضل بكثير -له ولغيره- لو فعل كل الناس الأمور الإيجابية التي يمارسها ... وهذا ما يمكن مقارنته مع الأمور السلبية من الحقد والمكائد التي يمارسها موظفو المؤسسات الإدارية في الدول العربية .... حيث  يمارسون الوشاية والتقارير الكيدية والعرقلة المتبادلة.... ويمكننا تخيل التعاسة التي يكرّسونها والشقاء الذي يجذرونه في المجتمع... ومع ذلك تجدهم يعكسون هذه الصورة السلبية ويسقطونها على الغرب المادي الذي لا يرحم فيه الجار جاره ولا الأخ أخيه... 
يمكننا باختصار أن نقول إن هذه الأمة هي أمة "الإسقاط النفسي" بامتياز منذ أيام الدعوة المحمدية في يثرب.... فالإسقاط متجذر في النفسية الإسلامية ومحمد مارس إسقاطاته النفسية على اليهود ووصفهم بالخيانة والغدر والكذب على الله وأكل الحرام "سماعون للكذب أكالون للسحت".... ولا زال المسلمون يصفونهم بأوصاف القرآن التي تنطبق عليهم "بأسهم بينهم شديد" ..."تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" ... وتشبيههم بالحمار الذي يحمل أسفاراً  ... وهم الذين أخرجوا كل هذا الكم من العلماء والعباقرة.... وهم الذين هزموا ست جيوش عربية وكونوا دولة الديمقراطية والحرية رغم ظروف المواجهة مع دول تجاهر بالعداوة وتهددها ليل نهار منذ بداية نشأتها ولكنها لم تتنازل عن الحريات الدينية التي يتمتع بها العرب والمسلمون والمسيحيون والبهائيون على قدم المساواة مع اليهود ومن دون تفرقة...
لماذا لا نكفّ عن تشويه أمم العالم والإستعلاء والنظرة الفوقية ؟!... لماذا لا نعرف للآخر قدره بإنصاف واحترام متبادل ؟!.... بل لماذا لا نتعلم من الأمم الأخرى وما الضير في جلوسنا أمام هذه الأمم المتحضرة كتلاميذ ومتعلمين لنرتقي ونتقدم ؟!... لماذا المكابرة ونحن منبع العنف والإرهاب ؟!...
لماذا لا نقيّم أخلاقنا ونعرف لنظام حقوق الإنسان قدره وأهميته ؟!.... لماذا لا ننتقد ونجتث التقاليد والأعراف الظالمة التي تكرّس السادية والعنف ؟!.... 
وللوصول إلى كل هذا ... لماذا لا ننفتح على العالم ليغزونا بثقافته العصرية ونحقق الإنسجام والتناغم معه بدلاً من الصراع والنظرة العدائية ؟!...
ليتنا نعلم إن حكوماتنا نجحت في حفر خندق عميق -عبر عقود من الزمن- بيننا وبين الغرب ،بل بيننا وبين العالم، ومازالت تحافظ على وجود هذا الخندق رغم الثورات ، لأنه يساعدها على تكريس تسلطها وسرقتها لأقواتنا... واليوم بعد فشل الثورات تحاول إقناع الغرب بضرورة تعميق الخندق وتكريس القمع لئلا يصل الإرهاب إلى شواطئهم...
والحل الوحيد هو احترام الآخر... والثقة بالآخر... والتعامل معه على قدر المساواة... فلسنا خيراً منهم كما إنهم ليسوا خيراً منا ولكن كما هي سنة الحياة علينا أن نتعلم التعايش .... تعايش الإنسان مع الإنسان ... بطريقة إنسانية وحضارية بعيدة عن قانون الغاب.  

الخميس، 25 أكتوبر 2018

تجربتي مع الأذكار الإسلامية



لا يرى المسلمون في تكرار الأذكار بطريقة "المانترا" حرجاً بل هي في لب فقه الذكر والتعبّد به، حتى وإن حصره السلفيون في أعداد معينة وردت في الأحاديث الصحيحة (بين الواحد والمئة في الأحاديث الصحيحة وقد تتجاوز إلى الألف في الأحاديث الأقل وثوقية ) ...
ما لفت نظري في فضائل هذه الأذكار إن الفضائل فيها معكوسة الأثر ، فما يعد به الحديث الصحيح من تخفيفٍ للحزن والمرض ودفعٍ للبلاء لا يحدث بل قد يحدث العكس ويظل تأكيدُ الحديثِ لغزاً .... والأمثلة كثيرة منها الحديث الصحيح :-
"مَن عادَ مرِيضاَ لم يحضُر أجلُه، فقال عنده سبعَ مِرار: أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يشفيَك، إلا عافاه اللهُ من ذلك المرضِ" ... الذي أجزمُ إنّ أكثر المتدينين المسلمين يجربونه فلا يجدون له أثراً يُذكر ولا حتى بالصدفة، وتظل الأعداد وسرّها لغزاً آخر، فلماذا يُشترط هذا العدد أو ذاك إن لم يكن في الأمر تٙشبُّه بأعمال السحرة والكهّان، مع إننا قد نجد لأعمال السحرة أثراً حتى وهي أعمال ملعونة ولا نجد للقرآن والدعاء أثراً ولا في الحلم حتى مع قوله:"لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله "
من الأمثلة التي كنت مقتنعاً بها خلال إسلامي هو قول أحد المتصوفة (ابن عطاء الله السكندري) :"من هلله أجلّه ومن سبّحهُ أصلحهُ ومن حمده أيّدهُ" ... أي من أكثر من ذكر "لا إله إلا الله" فإن الله سوف يعزّه ويجلّه جزاءاً له على إجلاله لله عزوجل، ومن واقع تجربتي كمسلم سابق ، حيث كنت أداوم الذكر وبالذات ذكر التهليل "لا إله إلا الله" آلاف المرات يومياً تطبيقاً للحديث الصحيح " أفضل الذكر لا إله إلا الله" .. فإنني كنت ألاحظ تراكم الهمّ والمشاكل مع كثرة الذكر بهذا الشكل ،فقد تبيّن لي فيما بعد إن تكرار الذكر يسبب التوتر النفسي والمشاكل النفسية والعصبية، وهذا أحد الجوانب السلبية لتكرار الأذكار عموماً، وهذا ليس غريباً فلطالما سبّب الإكثار من الأذكار بهذا الشكل للمتصوفة هلوسات لدرجة اعتقدوا انهم يلتقون بمحمد في اليقظة ويسمعون كلام الملائكة، وللعلم فإن الإكثار من الأذكار يتمثّل خصوصاً في الطقوس التي يسميها السلفيون أذكار الصباح والمساء ( قبل طلوع الشمس وقبل غروبها بعد صلاتي الفجر والعصر) حيث ذكر محمد في الأحاديث الصحيحة إن اتصال الذكر بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس يعادل عمرة إلى بيت الله "تامّة تامّة تامّة"... والتكرار في الألفاظ بهذا الشكل يدلّ على التأكيد مما كان يغريني بتطبيقه وبما إنّ الفترة الزمنية كانت طويلة فكنت أحاول استغلالها الإستغلال الأمثل بمداومة التهليل هكذا ..."لا إله إلّا الله ... لا إله إلّا الله... "، وحسب ما تسعفني الذاكرة لم تكن هناك أيّام أشدّ سواداً ودماراً نفسياً ومعاناةً أكثر من تلك الأيام التي كنت أداوم فيها على تلك الأذكار، مع إنني كنت أداوم فيها بأفضل الأذكار حسب أصح الأحاديث المتواترة فما بالك بغيرها، وتتضاعف المصائب مع الإلتزام بتلاوة القرآن الذي هو أكثر شؤماً بشهادة الكثير ممن تركوا الإسلام، فلا توجد سكينة أبداً في تلك الآيات المزيّفة، ولا عجب فهي محشوّة بكثير من الكلمات الحاقدة المليئة بأوصاف العذاب والتنكيل بالأسرى بحيث لا يمكن لشخص منصف أن يتصوّر وجود سكينة أو نزول رحمة معها، لذلك يلتزم المسلمون بقراءتها بدون فهم ،وعادةً ما يستدلون برؤيا رأى فيها الإمام أحمد ابن حنبل ربه فسأله عن أفضل ما يتقرّب به العبد إلى ربّه ، فقال له : بكلامي يا أحمد !( أي بقراءة القرآن)، فسأله : "يا رب بفهم أو بغير فهم ؟!"، فقال له:" بفهم وبغير فهم" (انظر مناقب الإمام أحمد لابن الحوزي) ..
ولذلك نسمع إن السلف كانوا يختمون القرآن بأعداد خيالية ( بعضها مستحيل علمياً) ويستحيل معها الفهم والتدبّر... وعلى الصعيد الواقعي وبغض النظر عن التنظير فإنّ الفهم والتدبّر عادةً ما يأتي في آخر الأولويات بالنسبة للقارىء المسلم (العربي والأعجمي) لعدة أسباب منها صعوبة ألفاظ القرآن وتحريم ترجمة القرآن ( أو نزع القدسية من النص المترجم باعتباره ليس قرآناً أو ليس كلام الله)....
وكل هذه الإعتبارات تؤكّد إن طقوس الذكر "ميكانيكية وآلية" في الإسلام لا روح فيها ولا فائدة منها ، ولطالما رأينا صور الطغاة وسارقي أقوات الشعوب والمترفين يحملون المسابح في أيديهم ولا نكاد نراها في يد شخص تقي مخلص صادق أبداً.

الجمعة، 16 مارس 2018

أبوبكر بن أبي قحافة .. مزاجٌ حاقد وقلبٌ متحجّر




أكاد أجزم إن أي شخص اطّلع على سيرة هذا الرجل عرف كم كان قاسياً متحجر القلب، فقسوة أبي بكر لم تكن بالقسوة العادية ولا يمكن مقارنتها بقسوة عمر، لأنها كانت تعبر عن مزاج حاقد بالإضافة إلى التنفيس الوحشي المتسرّع بدون كظم غيظ ولا مسامحة.
قد تكون أكثر الأعمال وحشيةً ما فعله قبيل وفاته ولكننا سنبدأ مع بداية إسلامه لنسبر غور كتب السيرة والأحاديث ، لأن البحث السطحي مضلل ، وثمة أحاديث تواجهك للوهلة الأولى عن رحمة هذا الرجل ورقّته،  مثل قول محمد عنه : " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" (1)، وبذلك عُرِف بين السلف من الصحابة والتابعين حتى إن إبراهيم النخعي أحد أكبر فقهاء السلف يقول عنه: "كان أبو بكر رضي الله عنه يسمى الأواه لرأفته ورحمته" .
وكل هذه الأقوال لا تمثل الصورة الحقيقية التي عرفناها من خلال المواقف المتعددة التي سجلتها كتب السيرة وصحاح الحديث، فالأقوال شيء والأفعال شيء آخر،  بالإضافة إلى إن كثيراً منها قد اُختلق في مراحل لاحقة لأغراض سياسية، وحتى إذا افترضنا صحتها تبقى أقوال نبي مدّعي كذاب عن رفيق دربه الذي ساعده في كذبه وتزويره .
وقبل أن نبدأ في سردها لابد أن ننبه إلى إن هذه المواقف وردت في الكتب المعتمدة من التفاسير وكتب الحديث والسيرة ، ومن المعتاد لديهم عدم التدقيق فيما يروى عن الصحابة بخلاف ما يروى عن النبي، ولو اعترض أحد المسلمين على ذلك فإننا نحيله إلى المرجع الذي نعلم إنه لا يمكن أن يتعمّد تشويه الصحابي إلا إذا كان فعل ذلك حقّاً. 


موقفه مع والده  :-
حين نقول إن قديساً أو ولياً صالحاً ضرب أباه فلا يحتاج أن نزيد على ذلك لنثبت سوء الخلق ، وهذا بالضبط ما فعله أبوبكر في القصة المشهورة التي طالما أشاد بها الوعاظ على المنابر كمثال يجب أن يُحتذى به على الولاء والبراء. حدثت هذه القصة في بداية الإسلام ولذلك بدأنا بها هنا ، ووردت في عدة تفاسير منها الدر المنثور والقرطبي :
أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال : أن أبا قحافة (والد أبي بكر) سبَّ النبي ، فصكَّه أبو بكر ابنه صكّةً، فسقط منها على وجهه.
ثم أتى النبي فذكر له ذلك، فقال:" أوفعلته؟! لا تعد له" .
فقال أبوبكر:" والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته"، فنزل قوله تعالى:"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروحٍ منه ويدخلهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون" .



مع أبنائه :-
ماذا نتوقع إذا كان الرجل قديساً من الدرجة الأولى ؟ هل نتوقع بيته مسرحاً للعنف العائلي أم إننا نتوقعه هادئاً مسالماً في بيتٍ مليء بالرحمة والرفق والتسامح ؟
تسجل كتب السيرة بعض التفاصيل البسيطة وهي تصرّفات ومواقف قد لا تعني شيئاً للكثير من الناس ، خصوصاً إذا قارنّاها بالموقف الأول المتمادي في قسوته، ولكنها تعطي فكرةً عن الجوّ الذي عاشه مع أبنائه خلال إقامته في المدينة ، ومن المعلوم إن أبناءه هؤلاء كانوا مؤمنين مسلمين متبعين لدينه وعانوا معه صعوبات الهجرة والغربة ولم يكفروا كما كفر جدّهم. ومن هذه المواقف ما ورواه البخاري وأبو داود حين استضاف أبو بكر بعض أصحاب الصفّة في بيته ثم أوصى ابنه بالإهتمام بهم وتهيئة العشاء لهم ريثما يذهب للصلاة مع نبيه محمد ويتحدث معه أو ربما يتعشى معه بحسب بعض الروايات ، فتأخر قليلاً ولكن الضيوف رفضوا العشاء بدون مضيفهم رغم الحاح الإبن والزوجة وقالوا:"مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيء" ، فجاء ابوبكر متأخراً ليعلم من زوجته ان ضيوفه لم يتعشوا بعد مما أغضبه من ابنه الذي آثر الإختفاء متوقعاً تصرفات الوالد الحاد المزاج ، وفعلاً قام أبوبكر بتعنيفه وسبّه وشتمه وبلفظ البخاري " فَقَالَ يَا غُنْثَر فَجَدّعَ وَسَبَّ" ،وهذه كما يبدو ثلاث كلمات تختصر سيلاً من الشتائم اللاذعة التي لا تليق إلا من أبٍ شوارعي الأخلاق عاجزٍ عن ضبط نفسه، بالإضافة إلى معاني التحقير المتمادية في حق ابنه الذي لم يرتكب ذنباً حسب تفاصيل القصة ، فقوله "غنثر" مَعْنَاهُ الذُّبَاب ، و قيل "سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَوْتِهِ فَشَبَّهَهُ بِهِ حَيْثُ أَرَادَ تَحْقِيره وَتَصْغِيره" (كما ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري) ،  وقول الراوي "جدّعَ" : أَيْ دَعَا عَلَيْهِ بِالْجَدْعِ وَهُوَ قَطْع الْأُذُن أَوْ الْأَنْف أَوْ الشَّفَة" ، وتدل هذه الألفاظ على المعاملة الفظة التي كان يلقاها أهل بيته منه لأتفه الأسبابوأما علاقته مع ابنته عائشة فقد روى أبوداود إنه استأذن على النبي مرةًّ، فَسمع صوت عائشةَ عالياً، فلما دخَلَ تناولها ليلطِمَها، وقال: "ألا أراكِ تَرْفعَينَ صَوتَكِ على رسولِ الله"، فجعلَ النبيَّ يحجزُهُ (2)، وخرج أبو بكر مُغضَبَاً.. إلى آخر الرواية التي تدلّ على حدة طبعه حتى في حضرة نبيه ، وهي لاشك تصرّفات تبدو طبيعية إذا رويناها عن عامّة الناس ولكنها كافية لجعلنا نأخذ عنه صورةً مغايرة للصورة التي أراد محمد تصويره بها كما انها تتنافى مع كثير من أحاديث حسن الخلق وكظم الغيظ التي كان محمد يوصي بها أتباعه .


مع خادمه :-
وضرب الخادم هنا يتنافى مع أمرين أحدهما كونه حدث في الإحرام حيث كما يقول القرآن "لا رفث ولا فسوق ولا جدال "، بالإضافة إلى نهي محمد عن ضرب الخدم والعبيد  حيث يروي أحد الصحابة وهو أَبِو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : كُنْتُ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا لِي ، فَسَمِعْتُ قَائِلا مِنْ خَلْفِي اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ ، فَالتَفَتُّ ، فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ ، فَقَالَ : لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَمَا ضَرَبْتُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ (رواه مسلم) ، ولكننا لانرى النبي هنا ينهى أبابكر بل يكتفي بالضحك .
 في المستدرك للحاكم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  حُجَّاجًا، وَإِنَّ زِمَالَةَ  (3)  رَسُولِ اللَّهِ ، وَزِمَالَةَ أَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةٌ، فَنَزَلْنَا الْعَرْجَ وَكَانَتْ زِمَالَتُنَا مَعَ غُلَامِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَجَلَسَتْ عَائِشَةُ إِلَى جَنْبِهِ، وَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ  مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي نَنْتَظِرُ غُلَامَهُ، وَزِمَالَتَهُ حَتَّى مَتَى يَأْتِينَا، فَاطَّلَعَ الْغُلَامُ يَمْشِي مَا مَعَهُ بَعِيرُهُ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ قَالَ: أَضَلَّنِي اللَّيْلَةَ، قَالَتْ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ:" بَعِيرٌ وَاحِدٌ أَضَلَّكَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ"، فَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَتَبَسَّمَ وَيَقُولُ: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ"  (4).


مع حرية الرأي :-
 وهذه القصة تصوّر مناظرة بسيطة بين أبي بكر وأحد أحبار اليهود يستخدم فيها اليهودي ذكاءه في التعريض باستجداءات القرآن المتكررة للإنفاق ، وهذا رغم وضوحه يحتاج منا للتنبيه لأن الرواية الإسلامية  للقصة رويت بطريقة توحي إن هذا الحبر اليهودي لا يعظّم الله ويستهزيء به ، واليهود عُرفوا بالعكس من ذلك تماماً إلى درجة انهم لا يكتبون اسم الله إلا على طهارة ولا ننسى إن الوصية الثالثة من الوصايا العشر في التوراة تقول: " لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأنّ الرب لا يزكّي من ينطق باسمه باطلاً "( تثنية 5-11).


ورد في تفسير ابن كثير : قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس،  قال:
دخل أبو بكر الصديق، بيت المدراس، فوجد من يهود أناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فِنْحَاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له: أشيع.
فقال أبو بكر: "ويحك يا فِنْحَاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل"  .
فقال فنحاص: "والله -يا أبا بكر-ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير. ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه ولو كان غنيا ما أعطانا الربا".(ويبدو إن هناك زيادة وتحريف من قبل الرواة ليبرروا ما فعله أبوبكر بعد ذلك فالرجل مؤمن بالله ولا يمكن أن يقول هذا في المدراس وهو من الأحبار والعلماء)
فغضب أبو بكر، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا، وقال: "والذي نفسي بيده، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين".
فذهب فنحاص إلى محمد فقال: أبصر ما صنع بي صاحبك.
فقال محمد لأبي بكر: "ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت؟" .
فقال: "يا رسول الله، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال، فضربت وجهه".
فجَحَد ذلك فنحاص وقال: "ما قلتُ ذلك".
فأنزل القرآن فيما قال فنحاص رداً عليه وتصديقًا لأبي بكر: " لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ".(وهذا ما يدعيه محمد أما الحقيقة فإن اليهود عُرفوا بتعظيمهم لله وإيمانهم به والأمر كما يبدو محض افتراء من أبي بكر ليبرر سلوكه العنيف) رواه ابن أبي حاتم.

مع أعدائه :-
أما الحقد الأعمى فيتمثل في حرقه لأحد المرتدين واسمه الفجاءة ، والقصة كما هي في تاريخ ابن خلدون:
 "وأما بنو سليم فكان الفجاءة بن عبد ياليل قدم على أبي بكر يستعينه مدعياً اسلامه ، ويضمن له قتال أهل الردة فأعطاه وأمره وخرج إلى الجون وارتد ، وبعث نجبة بن أبي المثنى من بني الشريد وأمره بشن الغارة على المسلمين في سليم وهوازن فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم وأعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه ولقياه فقتل نجبة ، وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره وجاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطبا ثم رمى به في النار مقموطا". 
والقصة مذكورة أيضاً في الكامل لابن الأثير وتاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير وعدد من المراجع التاريخية المعروفة. 



(1) أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك وصححه الألباني.
(2) مما يدل على إن الصدام لم يكن لفظياً فقط وإن أبوبكر هنا كان كالثور الهائج لا يوقفه شيء حتى لو كان النبي الذي يدعي تعظيمه وإجلاله.
(3) الزمالة : البعير الذي يُحمل عليه الطعام والمتاع.
(4) المستدرك على الصحيحين والسنن الكبرى للبيهقي ورجاله ثقات إلا محمد بن أسحاق عنعن وهو مدلس. صحيح ابن خزيمة قال الأعظمي: إسناده ضعيف لعنعنة ابن اسحق .



الخميس، 2 نوفمبر 2017

الدين الإسلامي ... إيمان حقيقي أم قناع يخفي العيوب ؟!





يفسر المسلمون القميص أو الثوب إذا رءاه شخص ما في الحلم بأنه الدين، فإذا رأى شخص نفسه في الحلم يلبس قميصاً أو يخلعه فمعنى ذلك إنه ينسلخ عن دينه أو يكتسب ديناً وتقوى...
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري: " قالوا : وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى: (ولباس التقوى ذلك خير)
".
ثم يقول في نفس الموضع :" واتفق أهل التعبير على أن القميص يُعبّر بالدين"
أي أن هذا التعبير متفق عليه بين علماء الإسلام ومستنده الحديث الذي يقول فيه محمد : "بينما أنا نائم؛ رأيت الناس يُعرَضُونَ عليّ وعليهم قُمُصٌ؛ منها ما يَبْلُغُ الثَّديَّ، ومنها ما يبلغ أسفل من ذلك؛ فعُرِضَ عليَّ عُمَرُ وعليه قميص يَجُرُّه"ُ، قالوا: "فما أوّلتَهُ يا رسول الله؟! "، قال: "الدِّين". (1)
وهذا مؤشّر على معنى الدين في الإسلام، وما هي وظيفته الإجتماعية وحقيقته وهدفه في حياة المسلم، وبما إن الأحلام لغة العقل الباطن فإن المسلم بطريقة لا واعية ينظر إلى الدين كستار أو قناع يخفي العورات (العيوب)، فالدين الإسلامي يركز على الظاهر " والله يتولى السرائر"، ولذلك يقول محمد:
"من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله عز وجل". (2)
وهذا تشجيع صريح على التستّر "بستر الله" على جرائم الفسق والفجور ، بحيث يصحّ للمسلم أن يعيش حياة مزدوجة بين الورع في الظاهر والفجور في السرّ ، وهذه الظاهرة تجعل المصلحين الإجتماعيين يعجزون عن معالجة ما يدور في العائلات المسلمة من تحرش وفجور خفيّ، فنسمعهم يقولون مثلاً :" إن المسلمين يحاولون دفن عيوبهم وأخطائهم تحت سجّادة الصلاة ويظنون ذلك كافياً لمعالجتها".....





ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما ورد في مسند أحمد إنّ رجلاً أتىِ عمر فقال إنّ امرأةً جاءت تبايعُه، قال :"فأَدخلتُها الدَّوْلَج (يقصد المخدع)َ فأصبتُ منها ما دون الجماع؟"، فقال عمر: "ويحكَ، لعلَّها مُغيبٌ في سبيل الله؟" (يعني إنها زوجة مجاهد في سبيل الله) ، قال:" أَجَل"ْ، قال: "فائت أبا بكر فاسأله"، قال: "فأتاه فسأله؟"، فقال: "لعلَّها مُغيبٌ في سبيل الله؟" ، قال: فقال مثلَ قول عمر، ثم اتَى النبي فقال له مَثلَ ذلك، قال: "فلعلها مُغيبٌ في سبيلَ الله؟ "، ونزل القرآن: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" إلي آخرِ الآية فقال: "يا رسول الله، ألي خاصةً أم للناسَ عامةَ؟"، فضرب عمرُ صدرَه بيده فقال:" لا، ولا نَعْمَةَ عَيْنٍ، بل للناس عامةً" ، فقال رسول الله : "صدَق عمر". (3) .. وفي سنن أبي داود نفس الحديث وإن عمر قال للرجل :" قد ستر الله عليك لو سترت على نفسك" (4) ..
ولا غرابة في ذلك فكل ما دون الجماع داخلٌ في معنى اللمم، واللمم لا يحتاج إلى التوبة حسب كلام القرآن :"الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، إنّ ربك واسع المغفرة" .... فهذا اللمم تطهّره الصلوات المفروضة من دون حاجة إلى استغفار كما في صحيح مسلم عن محمد قوله: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّراتُ ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"... وفي جميع الحالات تبقى المطالبة بستر المعاصي من لب السنّة المحمدية ، حيث يقول محمد :" كلُّ أمّتي معافى إلا المجاهرين،  وإنّ من المجاهرةِ أن يعمل الرجلُ بالليلِ عملاً، ثم يُصبحُ وقد سترهُ الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحةٙ كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبحُ يكشف ستر الله عنه" (رواه البخاري ومسلم)...
يصدق أن يقال عن الإسلام إنّه "دين الظاهر والقشور" لأنه لا يولي للباطن اهتماماً ... فالظاهر كافٍ للحكم على الاشخاص .. إذا رأيتم الشخص "يعتاد المساجد .. فاشهدوا له بالايمان" .... و "رفع عن أمتي ما حدثت به أنفسها" ... "نحن نحكم على الظاهر والله يتولى السرائر" ..... الخ من المقولات التي تنتشر على ألسنة المسلمين وتترجم حقيقة الإسلام...
حتى الإيمان بالله فالحكم عليه بالظاهر ولا عليك بما يعتمل في صدرك من وساوس... بل قد تكون في قمة إيمانك وأنت في سرك تسب الله ورسوله ... انظر الى محمد كيف يجيب صحابته حين صارحوه بما يعتمل في صدورهم من الشكوك والوساوس التي لا يستطيعون البوح بها أمام الناس... ولعلهم شكّوا في ألاعيب نبيهم المزيف ... فقالوا له: "إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به".... فيردّ عليهم محمد متسائلاً :" وقد وجدتموه ؟!"... وكأنّه هنا يحاول تحويل هذه الظاهرة المخيّبة للأمل إلى شيء معاكس تماماً ينبغي عليهم أن يفرحوا به !!... فيُردف محمد قائلاً :"ذاك صريح الإيمان !!"...(رواه مسلم).....
أي أن محمد لم يكن يهتم بإصلاح الباطن ... بل المهم هو ما يظهرونه له ... فهو يحتاج صحابته عوناً على تحقيق طموحاته الشخصية في السيادة والسيطرة فقط ، أمّا ما يعتمل في صدورهم من شكّ وريبة فليحتفظوا به في صدورهم ولا خوف منه لأنه لا يضر !!! ....
ولذلك كان محمد يعرف إن أكثر أصحابه منافقون ولم يشجّعهم على المصارحة بعدم الإيمان ، وخصوصاً من كان يسميهم "المؤلفة قلوبهم" ، وما هم إلا قومٌ من قريش قبلوا الرشوة ليندمجوا في المسلمين ولو ظاهرياً، أما المنافقين فقد كان محمد يحتفظ بقائمة سرية لأسماء بعضهم ممن حاولوا قتله بعد غزوة تبوك ، وكان حذيفة يعرفهم واحداً واحداً ، لذلك قيل إنه صاحب سرّ رسول الله، ولمّا دعا رجلٌ أمام حذيفة "اللهم أهلك المنافقين" قال له حذيفة مستدركاً :" لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم "(ابن أبي شيبة)..... أي إنّ أكثر من كانوا يجاهدون في صفوف المسلمين منافقون لا يؤمنون بمحمد وقرآنه بقدر إيمانهم بمنطق الغنائم ونكاح السبايا.




(1) السلسلة الصحيحة للألباني رقم ٣٦١٢ ورواه عبد الرزاق (٢٠٣٨٥) ، ومن طريقه: أحمد (٥/٣٧٣- ٣٧٤) ، والترمذي (٢٢٨٥) - واللفظ له.

(2) رواه البيهقي والطحاوي في "مشكل الآثار" والحاكم عن ابن عمر وإسناده جيد ( مختصر منهاج القاصدين والتحقيق لعلي حسن علي عبدالحميد) وفي السلسلة الصحيحة نفس الحديث بلفظ " اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألمّ فليستتر بستر الله عز وجل ، فإنه من يبدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله "... رقم ٦٦٣.

(3) مسند أحمد تحقيق شاكر وصححه... والحديث بشكله المختصر في صحيح مسلم..

(4) سنن أبي داود تحقيق الأرنؤوط وقال محققه الحديث صحيح والإسناد حسن.


الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

محمد ونهاية العالم



كان محمد مقتنعاً في بداية الأمر بقرب قيام الساعة، وإنها ستقوم قبل وفاته، وهذه القناعة في رأيي لم تكن إلا عرضاً من أعراض مرضه الذي يتجلّى أحياناً في مظاهر من السوداوية والتشاؤم.
ومن أصح الأحاديث التي عبّرت عن هذه القناعة حديثه الذي يقول فيه :"بعثت أنا والساعة كهاتين" ( إشارةً إلى أصبعيه السبابة والوسطى وهما مقترنتين جنباً إلى جنب)، وهو حديث متواتر لا يحق لأحد أن يطعن فيه... بل إن النظرة المحايدة والموضوعية لأحاديث من هذا النوع تجعلنا نرجحها على القرآن، فالقرآن كان ولا يزال بدون أسانيد. صحيح إن المصحف كان موحّداً في وقت مبكّر وتحديداً في وقت الخليفة عثمان بن عفان، ولكن إذا نظرنا لطريقة جمعه قبل ذلك في عهد الخليفة أبوبكر لوجدنا ما يؤكد عدم دقته خصوصاً مع عدم حفظ غالبية الصحابة للقرآن بشكل كامل، ولذلك لم يكن غريباً أن نسمع إن أحد الصحابة جاء بآية لم يعرفها غيره ليضيفها أبوبكر إلى القرآن خلال محاولة جمعه، فكانوا كأنهم لم يسمعوها من قبل ولا حتى يعرفون أين يضعونها في ترتيب السور.
إذاً ، لا يمكن التشكيك في هذا الحديث المتواتر ، وكذلك في مدلوله الواضح الذي يعلن قرب قيام الساعة قبل وفاة محمد، فكيف إذا علمنا إنّ القرآن نفسه يؤكد هذه الحقيقة ولا يكذّبها ، فهو يقول :"اقتربت الساعة وانشق القمر" ويقول:"اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون" ، والأدلة في الحديث والأثر كثيرة والمفتاح الرئيسي في نظري هو عمر بن الخطاب، فهو الرجل الثاني وهو المحدّث الملهم الذي يحتل مكانة قريبة من مرتبة النبوة، ومع ذلك حين يسمع بموت محمد يقولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ... ويقول (حسب رواية البخاري ) وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُم.. وفي رواية بمسند الدارمي يضيف عمر :"إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِج بروحِ مُوسَى" وهي رواية مرسلة رجالها ثقات كما يقول محقق الكتاب.
وهنا يتدخل أبوبكر ليصحّح كلام عمر ويتلافى بذلك فتنةً كبيرة كان يمكن أن تقع في المسلمين، وهذه الفتنة أساسها نبوءات محمد التي لم تتحقق ، فحسب ما ورد في رواية أخرى للبخاري : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وعمر يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: «اجْلِسْ»، فَأَبَى، فَقَالَ : «اجْلِسْ»، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل" ... ثم يردف الراوي: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا !!!!!!
وحقاً قد لا يكون الله أنزلها قبل ذلك ، ولكنها تلفيقات أبي بكر كما يبدو . 

مع قليل من التحليل نجد إن هذا الموقف يثير عدة تساؤلات .... 
أولاً: كيف لم يسمع عمر -وهو من هو - بالآية من قبل ؟!. ...فعمر حسب ما عُرِف عنه إنّه كان أحرص الناس على متابعة الوحي أولاً بأول، وهناك رواية عنه في البخاري تدلّ على ذلك حيث يقول :" كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ َ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ"

ثانياً- ما قصْد عمر بعروج روح محمد الى ربه "كما عُرج بروح موسى" ؟! وهل كان يقصد أن يقول "كما عُرِج بروح عيسى" ؟! وما الذي دعاه إلى هذا الإفتراض ؟!..... فمن المعلوم إن محمد كان مريضاً مرض الموت، وهو حالياً مسجّى في غرفته بدون حراك ولا نفس... وهي الصورة الطبيعية للموت، فما الذي ألجأه لهذا النوع من الإنكار ؟! ......
هل يمكن أن نقول إنّه لا يصدّق بموت محمد أم إنّه يريد اختلاق "عقيدة الغيبة والرجعة" والسيطرة بها على مقام النبوة كما فعل وكلاء المهدي عند الشيعة عندما ادّعوا إن المهدي حي لم يمت وهو غائب عن الخلق لا يراه إلا من عُرِفوا لاحقاً بالسفراء، وبالتالي اختلقوا الرسائل والوصايا بإسمه !!!

كل هذه التساؤلات تقود إلى وجود عقيدة طُمست أو شوِّهت بعد وفاة محمد، وكان من الممكن أن يُرسي دعائمها "عمر" لولا مخالفة "أبي بكر" له . وتفاصيل السيرة تؤكّد إن موت محمد كان صدمةً غير متوقعة حتى إنّ الذهول والحيرة غطيا على مشاهد الحزن ، مما يدلّ على إن موته في ذلك الوقت كان يناقض تنبؤاته وعقيدته بشكلٍ لا يمكن استيعابه ، ومما يؤكّد إن موقف عمر لم يكن استثنائياً رواية ابن سعد في الطبقات الكبرى عن أبي سلمة حيث قال: اقتحم الناس على النبي في بيت عائشة ينظرون إليه فقالوا : كيف يموت وهو شهيدٌ علينا ونحن شهداء على الناس فيموت ولم يظهر على الناس ؟ لا والله ما مات ولكنه رُفع كما رُفع عيسى بن مريم وليرجعن ! وتوعّدوا من قال إنّه مات ونادوا في حجرة عائشة وعلى الباب: لا تدفنوه فإنّ رسول الله لم يمت ! .....

احدى آليات التلفيق هنا تستلزم تأجيل موعد الساعة ، وهنا يقرر الصحابة أن يؤجّلوا موعد الساعة لمئة سنة إضافيّة ، حيث يروون إن محمد أخبرهم بأمرٍ آخر قد يكون تفسيراً محتملاً لقوله " بعثت أنا والساعة كهاتين"،فمن القرن إلى القرن الذي يليه كما بين السبابة والوسطى والمسافة الزمنية بين القرنين قريبة !!! ... فلماذا الإستعجال وقلة الصبر ؟! ... يروي الحديث إن محمداً قال لأصحابه ( وذلك في إحدى الليالي قبل وفاته بسنة) :"أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن رأس مائة سنةٍ منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" (صحيح البخاري وهو حديث مشهور روي عن عبدالله بن عمر وجابر وغيرهما )
.
وهذا الحديث رغم قوة أسانيده يثير كثيراً من التساؤلات إذا قارنّاه بالموقف الذي اتّخذه عمر، فهل أدرك محمد قرب وفاته فتدارك خطأه في قرب قيام الساعة فأجّلها مئة سنة إضافية ، أم إن الصحابة هم الذين حاولوا تلفيق ما ورد عن محمد من أحاديث سابقة تناقلها الناس، أم إن عمر كان يهذي كعادته ومكانته العلمية الحقيقية لا تتعدّى مرتبة جاهل حقيقي حتى بمبادئ الإسلام الأولية ؟! كل هذه الإحتمالات واردة وكلها تؤكّد إنّ جوهر دعوة محمد مبنيّ على نبوءة أساسية بقرب قيام الساعة ... إمّا في حياته أو في القرن الذي بعده... لكنّها لا يمكن أن تتأخر إلى أبعد من ذلك وإلا كان محمد كذّاباً أو موهوماً... وهنا تكون الكارثة التي ما بعدها كارثة !!!

هذا التلفيق الأول ( إذا صحّت تسميته تلفيقاً ) كان في المرحلة الأولى ألا وهي مرحلة "حياة محمد أو حياة صحابته" حسب الاحتمالات التي ذكرناها، ولكن مرور مئة سنة بدون حدوث شيء يستلزم تلفيقاً آخر يقوم به من بعد الصحابة من رواة الأحاديث لذلك اختلق السلف ( أو فلنقل بعض المحدثين ) حديث " الآيات بعد المئتين"
(سنن ابن ماجة والحاكم والسلسلة الضعيفة للألباني رقم ١٩٦٦) فبما إنه لم يحدث شيء بعد مرور المئة سنة الأولى فقد تمّ تأويل الحديث المئة سنة إنّه يقصِد "لن يبقى أحد من الذين كانوا أحياء في تلك اللحظة بعد مئة سنة"، وهذا تلفيق في قمة الغباء لأن أعمار الناس لم تكن تتجاوز المئة سنة إلا في القليل النادر، ومحمد نفسه اعترف بهذا حين قال :" أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك " (السلسلة الصحيحة للألباني رقم ٧٥٧) ، أم إنّه كان يقصد الأمم الأخرى ؟! وهذا من الصعب بل من المستحيل التحقق منه. ومع كل ذلك فنبوءة بهذا الشكل عبثية لا معنى لها ولا تكون ذات معنى مناسب للسياق إلّا إذا قصد بها محمد انتهاء عمر الكون وقيام الساعة بعد مئة سنة من تصريحه بالحديث وهو المقصود الصحيح من الحديث على فرض ثبوته.
المهم ان الذين لم يخطر على بالهم هذا التأويل اختلقوا حديث المئتين.... ولما لم يحدث شيء من علامات الساعة بعد المئتين قالوا إنّ المقصود بها المئتان بعد الألف
(حاشية السندي على سنن ابن ماجة) ، وأظن إنّ هذا الرأي لم يؤخذ بشكل جدّي والعلماء عموماً أهملوا هذا الحديث بالتضعيف أو عالجوه بالتأويل ، وهذا أمر طبيعي ما دامت النبوءات التي فيها لم تتحقق، فالبخاري يقول عن حديث المئتين: " فقد مضى مائتان ولم يكن من الآيات شيء ". ولهذا جزم ابن القيم في كتابه " المنار المنيف" بوضعه.
وأحاديث (علامات الساعة) عموماً كلّها تنتهي إلى نفس النتيجة، فهي إمّا مضعّفة أو مؤوّلة أوينتظر عامّة المسلمين وقوعها بفارغ الصبر، والنظرة الموضوعية الحياديّة تؤكّد إن هذه الأحاديث خرجت من فم شخص يعاني نظرة سوداوية وينتظر نهاية العالم في وقت قريب قبل وفاته، ولكنّ شيئاً مما توقعه لم يحدث ولن يحدث. ومع ذلك مازال الكثير من المسلمين اليوم ينتظرون أن يأتي الزمان بما قد يثبت صدق نبيهم رغم فوات موعد تحقق هذه النبوءات بمئات السنين !!.