أسوأ ما في المخابرات الليبية - والمخابرات العربية عموماً - أنها تعامل الشعب كأنه قطيعٌ من الأغنام ..... ولا مشكلة في أن تكون هي تلك الكلاب التي تنبح على الشياه الشاردة لتحافظ على سيرها ضمن القطيع ... ولا أحد منهما يشعر بالعار من هذا الوضع المزري الذي يكون فيه الراعي "القائد الأوحد" هو الإنسان الوحيد .... أما الباقي فبهائمٌ لا تدرك مصلحتها ....
عقلية القطيع تتماشى تماماً مع المنطق القبلي ... وكذلك مع الإسلام ... وكلاهما يناسبان المجتمع الرعوي في ليبيا ... لكن هذا لا يُعطي عذراً للإسلام ولا لهذا المجتمع لأن هناك دولاً متقدمة حضارياً والرعي مهنة رئيسية فيها كاستراليا وأمريكا ولا تجد فيها أثراً لهذه العقلية المتخلفة ...
فمن المتهم إذاً في نقل عقلية الراعي والقطيع إلى مجتمعاتنا العربية إذا لم يكن محمد النبي البدوي الذي صبغ دينه بهذه العقلية ثم طالب العالم بتبنيها كدين رسمي ... وهذا لو تفحّصناه لوجدناه من أدلّ الدلائل على إنه لم يكن ديناً سماوياً بل أرضيٌ بامتياز .... فالصبغة البدوية المحلية في الإسلام لا تتناسب مع كونه ديناً عالمياً ... بل تتناسب مع إلهٍ محليٍ جداً وأرضيٍ جداً لا يختلف عن اللات والعزّى في قليلٍ أو كثير.
المواطن الليبي متمسّكٌ بدينه وبنظامه القبلي ... ومنضوٍ بخضوع لهذا النظام القبلي المتخلف بصفته الملاذ من الغبن والظلم ... فالقانون وحده لا يكفي لحمايته.... والمخابرات الليبية في حلفها الأبدي مع هذا النظام القبلي تعزّز هذه النظرة وتحاول برمجة عقول الليبيين ليتقبلوا هذا الوضع بدون ترفّع أو تنزّه ..... فالمخابرات تحترم النظام القبلي وتضمن ولاء المنضويين تحته من خلال ولاء الزعماء ... أما الأفراد خارج "المظلة القبلية" فلا ضمان لأمنهم ولا حقوق لهم ... وهم متهمون إلى أن يثبتوا الولاء الكامل لهذا النظام ...
هذا لا يشمل طبعاً الملتزمين بالإسلام عبر الحضور الدائم في المساجد يصلون ويسبحون لإله الإسلام ..... فالإنتماء للمسجد يمثّل القطيع من الدرجة الثانية بعد القطيع من الدرجة الأولى ألا وهو القبيلة ....وتقوم المخابرات والأجهزة السرية للدولة بزرع عملاء سريين في كل مسجد للإحصاء والتصنيف للمصلين .... فلابد من معرفة كافة الميول والإتجاهات الدينية ...
لا يعني ذلك إن المتدينين مستهدفون بل قد يعني - على العكس من ذلك - استعمال الجماعات الدينية في خدمة النظام بشكلٍ أو بآخر وتوظيفهم في ضرب الخصوم والمعارضين ... أو على الأقل التنبؤ بجميع تحركاتهم ومواقفهم من خلال سيرهم في نطاق ضيق وبشكل معروف سلفاً ..... فالمسارات المجهولة خطيرة جداً في هذا المجتمع .... ونظام القطيع هو السائد ومن هو خارج القطيع سيجد كل الأصابع تشير إليه بالإتهام حتى يُفصح عن تبعيته لجماعةٍ أو قبيلة .....
أما كيفية التعامل مع من هم خارج القطيع فلا تحكمها قيود ..... بل لابد أن يشعر هذا الخارج عن القطيع بأنه شيطان رجيم ... أو بعبارة أخرى فإن من تخلى عن الغطاء القبلي لا ينبغي له أن يجد أي ملجأ ...ولا يفلح قانونٌ في حمايته والدفاع عنه .... لأن الدولة في حقيقتها لا تسير وفق القانون ... فالقذافي قوّض سلطة القانون وقوّى الأجهزة الأمنية السرية والعلنية .... في تراجعٍ واضح لمفهوم "الحق والقانون" .. وسيادة واضحة لمنطق "القوة"...
هذه الأجهزة السرية تقوم بكل ما يلزم لسيادة الأمن .... بدون حدود أخلاقية أو قانونية ... بل قد تمارس القمع على من ترى فيهم إمكانية الجنوح للجريمة أو حتى معارضة الدولة ... حتى قبل أن يثبت عليهم نية الشروع في ما يعتقدون أنه جريمة ... وبالتالي فإنك تجد الأجراءات الإستباقية هي أكثر ما يميز الأمن الليبي .....
ومن السمات البارزة في هذه السلطات استخدامها الجيد للموارد البشرية ... حيث إنها رغبةً منها في الإستفادة الكاملة من كافة أطياف المجتمع فإنها لا تفوّت الإستفادة من إجرام وبلطجة بعض الشباب المنحرف ..... فتستخدم المجرمين وتوظفهم حيث يقتضي الأمر ترهيب المجتمع بهم ..... لأن المجتمع الليبي بطبيعته لا يهاب بل لا يحترم الإنسان الملتزم بالأخلاق والقانون .... بقدر احترامه للفاسق والمجرم .... وهذه بعض صفات المسلمين عموماً وتجدها بصورة مركّزة في المجتمع الليبي لعمق التزامه بالإسلام ...
وأيضاً والمهم في هذه النقطة إن توظيف المنحرفين والمجرمين يدل على إن ما يريدون حماية المجتمع منه ليس الجريمة والإنحراف بقدر ما هو مخالفة النظام .... أو أي خروج على نظام الحكم أو إحداث بلبلة في منظومة المجتمع الدينية أو الثقافية ... فالنظام صارم وعلى المواطن أن يتعوذ دائماً من شيطان الحرية والخروج عن المألوف ....
مهمة المخابرات الليبية بالدرجة الأولى أن تحميك من نفسك ..... لأن اعتبارها عدواً للفرد غير وارد ... فالمواطن قد يغتاب رئيس الدولة معبراً عن سخطه من تصرفاته وفي نفس الوقت يكون متعاوناً مع المخابرات .... ويبرر كل هذا التناقض بالأمر الواقع! ...لا مشكلة .. و "اليد التي لا تستطيع قطعها فقبِّلها" ..كما يقول المتماهين مع عقلية القطيع..
في الواقع فإن الأمن الليبي استخدم المجرمين والبلاطجة ليحمي المجتمع من الجريمة .... بل واستعمل السحرة والمشعوذين ليحمي دين المجتمع من الأفكار الدينية المارقة .... ولم يشعر بالتناقض لأن لا منطق يحكمه ولا عقلانية في تصرفاته سوى منطق القوة وعقلية القطيع ....
اذا سمحت المخابرات للمقهورين برفع صوتهم فمن أجل التنفيس لا غير ... أما رفع الصوت من أجل تغيير حقيقي كما حدث في الثورة فليس إلا استثناءاً .... والظروف أثبتت أن المجتمع يسير على مبدأ القوة ويحكمه قانون الغاب ... فلا تغيير إلا بمبدأ القوة ... وسنكون دائماً بانتظار طرفٍ أقوى ليغير الوضع ونحن ننتظر كالنعاج .....